مقدمة
بعد أكثر من تسعة أعوام على الثورة، لا تزال حريّة التعبير تُشكّل المكسب الأهمّ في تونس. وعلى الرغم ممّا حِيك ويُحاك من تهديدات ضدّ حريّة التعبير والصحافة والإعلام، فإنّ المجتمع التونسي قد بات يأبى عموما العودة إلى الممارسات القمعيّة السائدة زمن تكميم الأفواه قبل جانفي 2011. ومع هذا التحصين الذاتي، لا تزال المخاوف قائمة إزاء احتمال حصول انتكاسات في هذا المجال، وخصوصا في ظلّ تدهور بيئة عمل الصحفيّين ووسائل الإعلام، فضلا عن البطء في إعداد الإطار القانوني الجديد للقطاع الإعلامي في تونس والمصادقة عليه[1].
وقد اتّسمت الساحة التونسيّة طيلة سنوات ما بعد الثورة بحراك حثيث لمكوّنات المجتمع المدني التي تضاعف عددها، منذ المصادقة على المرسوم عدد 88 لسنة 2011 المتعلّق بتنظيم الجمعيّات[2]، نحو ثلاث مرّات حتّى تجاوز عدد الجمعيّات أوائل عام 2020 عتبة 23300 جمعيّة محدثة في مختلف المجالات[3]، الأمر الذي جعل المجتمع المدني سمة أساسيّة من سمات التحوّلات العميقة في المشهد التونسي. ومن ثمّة كان من الطبيعي أن تنزع مكوّنات المجتمع المدني إلى مرافقة الإصلاحات القانونيّة والهيكليّة المنشودة على مختلف الأصعدة، بما في ذلك القطاع الإعلامي الذي يُعدّ قطاعا حيويّا وأفقيّا يهمُّ كافّة المجالات في حال توفّرت له مقوّمات الحريّة والاستقلاليّة والمهنيّة والنزاهة.
والمعلوم أنّ الأغلبيّة الساحقة لوسائل الإعلام التونسيّة كانت قبل الثورة تَدين بالولاء التامّ لنظام بن علي الاستبدادي. وليس بسرّ كذلك أنّ شدّة القمع التي كان يمارسها النظام السابق ضدّ نشطاء حقوق الإنسان قد أثّرت كثيرا في تحرّكات الجمعيّات التونسيّة المدافعة عن حقوق الإنسان وحريّة التعبير والتي كانت تُعرف آنذاك بائتلاف الجمعيّات الحقوقيّة (L’Inter-associative) وجعلت عددها ضئيلا لا يكاد يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة. كما كانت سُنّة القمع والمنع، خلال فترة الحكم الديكتاتوري، تطول أيضا المنظمات الدوليّة التي لم يُسمح لمعظمها بالعمل في تونس. وهو ما يُفسّر مثلا أنّ بعض أبرز المنظمات الدوليّة غير الحكوميّة، الناشطة
في مجال مناصرة حريّة التعبير والإعلام، لم تتمكّن من فتح مكاتب لها في البلاد التونسيّة إلّا بعد جانفي 2011.
ومن دون شكّ أنّ مكوّنات المجتمع المدني، وتحديدا المهتمّة منها بقضايا الشأن العام[1]، لم تنكب بكلّ طاقتها على المشاركة في إصلاح القطاع الإعلامي، بعد الثورة، إلّا لإدراكها مدى الارتباط الشديد بين حريّة التعبير وسائر الحريّات الفرديّة والعامّة من جهة، ولكون حريّة الصحافة والإعلام تمثّل ركيزة أساسيّة لأيّ نظام ديمقراطي من جهة أخرى. وهو ما جعل من هذا الحراك الجمعيّاتي بمثابة قاطرة مدنيّة لعمليّة إصلاح الإطار القانوني والمؤسّساتي لقطاع الإعلام، فضلا عن تعزيز مهنيّته وحوكمته.
ويعتمل اليوم هاجس مشترك بين مكوّنات المجتمع المدني والمنظمات الدوليّة والهياكل المهنيّة لقطاع الإعلام يكمن أساسا في ضرورة العمل المشترك على تجنّب إجهاض هذه التجربة الديمقراطيّة في بدايتها والتفويت في فرصة ثمينة لإنجاح المسار الانتقالي المرتبط بنيويّا بتعزيز حريّة التعبير وإصلاح قطاع الإعلام. ولا يعود ذلك فقط إلى هشاشة هذا المسارالناشئوإنّما أيضا إلى الحرص على إرساء مقوّمات صلبة من شأنها أن ترسّخ حريّة التعبير والإعلام في تونس. وعليه، عملت مكوّنات المجتمع المدني، منذ عام 2011، على التصدّي لمحاولات تقييد الحريّات واحتمالات حدوث انتكاسات تمنع تعزيز المكاسب التي تحقّقت وقد تهدّد وجودها أصلا. وهو ما يتطلّب يقظة دائمة ألهمت مكوّنات المجتمع المدني التونسي والهياكل المهنيّة في قطاع الإعلام والمنظمات الدوليّة وجعلتها نصب أعينها.
وفي هذا النطاق، لجأ المجتمع المدني إلى مجموعة متنوّعة من الاستراتيجيات السلميّة للحفاظ على المكاسب وتسليط الضوء على المطالب المشروعة الأخرى[2]. وقد تنوّعت آليات التحرّك كلّما عُرضت مشاريع قوانين جديدة أو استجدّت أحداث من شأنها أن تُقيّد حريّة التعبير والصحافة. فشملت إجراء تحرّكات عاجلة وتوجيه رسائل جماعيّة مفتوحة وإطلاق حملات مناصرة عديدة وإصدار تقارير وتنظيم لقاءات وندوات وتيسير مناقشات عميقة على شبكات التراسل الإلكتروني والميديا الاجتماعيّة وبعض المنابر الإعلاميّة بهدف زيادة الوعي وحشد التأييد، فضلا عن التواصل عند الحاجة مع الأحزاب السياسيّة وصنّاع القرار الرئيسيّين في البرلمان والحكومة ورئاسة الجمهورية. وبلغ الأمر، في بعض الأحيان، حدّ لجوء بعض مكوّنات المجتمع المدني إلى
[1] وفق تصنيف الجمعيّات حسب النشاط، المحدّد في إحصائيّات مركز “إفادة” والوارد في المصدر الآنف ذكره، فإنّ الجمعيّات التي أسهمت في عمليّة إصلاح القطاع الإعلامي تنتمي بالأساس إلى الجمعيّات المصنّفة “جمعيات حقوقيّة” و”جمعيّات مواطنة” و”جمعيّات نسائيّة” و”شبكة”. وتبلغ نسبتها مُجتمعةً حوالي 6.33 بالمائة من ضمن العدد الإجمالي للجمعيّات في تونس. وهذا طبعًا دون اعتبار الهياكل المهنيّة الممثّلة في النقابات التي لا تُحتسب ضمن الجمعيّات.
وفي هذا النطاق، لجأ المجتمع المدني إلى مجموعة متنوّعة من الاستراتيجيات السلميّة للحفاظ على المكاسب وتسليط الضوء على المطالب المشروعة الأخرى[1]. وقد تنوّعت آليات التحرّك كلّما عُرضت مشاريع قوانين جديدة أو استجدّت أحداث من شأنها أن تُقيّد حريّة التعبير والصحافة. فشملت إجراء تحرّكات عاجلة وتوجيه رسائل جماعيّة مفتوحة وإطلاق حملات مناصرة عديدة وإصدار تقارير وتنظيم لقاءات وندوات وتيسير مناقشات عميقة على شبكات التراسل الإلكتروني والميديا الاجتماعيّة وبعض المنابر الإعلاميّة بهدف زيادة الوعي وحشد التأييد، فضلا عن التواصل عند الحاجة مع الأحزاب السياسيّة وصنّاع القرار الرئيسيّين في البرلمان والحكومة ورئاسة الجمهورية. وبلغ الأمر، في بعض الأحيان، حدّ لجوء بعض مكوّنات المجتمع المدني إلى تنظيم وقفات احتجاجيّة ومسيرات سلميّة. وقد دأبت تلك التحرّكات المتضافرة على رفض تقييد الحريّات التي فرضها الزخم الثوري بين ديسمبر 2010 وجانفي 2011، وفي مقدّمتها حريّة التعبير والصحافة والإعلام.
[1] جميل، دنيا، “المجتمع المدني التونسي: من ثائر إلى حارس للسلام”. مقال نشر في موقع مدوّنات البنك الدولي بتاريخ 15-10-2015. يمكن الاطلاع عليه على الرابط التالي: https://blogs.worldbank.org/ar/arabvoices/tunisian-civil-society-revolutionaries-peace-keepers
[2] جميل، دنيا، “المجتمع المدني التونسي: من ثائر إلى حارس للسلام”. مقال نشر في موقع مدوّنات البنك الدولي بتاريخ 15-10-2015. يمكن الاطلاع عليه على الرابط التالي: https://blogs.worldbank.org/ar/arabvoices/tunisian-civil-society-revolutionaries-peace-keepers
[1] أنظر تقرير منظمة “مراسلون بلا حدود”: https://rsf.org/ar/twns
[2] مرسوم عدد 88 لسنة 2011 مؤرّخ في 24 سبتمبر 2011 يتعلّق بتنظيم الجمعيّات:
[3] أنظر “مركز الإعلام والتكوين والدراسات والتوثيق حول الجمعيات” (إفادة). إحصائيّات صادرة بتاريخ 10 مارس 2020. http://www.ifeda.org.tn/stats/arabe.pdf